العمل المؤسسي لا يُرضي الجميع… حين يُهدد الإصلاح شبكة الامتيازات

بقلم: محمد مهلهل الياسين
في مجتمعات تعاني من تداخل العلاقات الشخصية بالمصالح العامة، يصبح من الطبيعي أن يُنظر إلى العمل المؤسسي على أنه “تهديد” لا “فرصة”. فالتحول من بيئة تحكمها الوساطة والمحسوبية والشللية، إلى بيئة مؤسسية قائمة على الكفاءة والعدالة والشفافية، ليس أمرًا سهلًا ولا سريعًا. بل هو مسار طويل تتخلله مقاومة شرسة ممن اعتادوا النفاذ من أبواب خلفية، وتحقيق المكاسب دون وجه حق.
فهل فعلاً لا يُرضي العمل المؤسسي الجميع؟ ولماذا يعارضه البعض ولو بشكل غير مباشر؟ وما علاقة ذلك بجذور الثقافة الإدارية في العالم العربي؟
أولًا: مفهوم العمل المؤسسي
العمل المؤسسي هو نموذج إداري يُبنى على:
•توزيع الأدوار بوضوح
•تحديد المسؤوليات دون ازدواجية
•اعتماد السياسات والإجراءات المكتوبة
•الاحتكام إلى القانون لا الأشخاص
•تقديم الخدمات بناءً على معايير واضحة، لا علاقات شخصية
هذا النموذج يهدف إلى تقليل الاعتماد على الأفراد وزيادة الاعتماد على النظام، مما يعزز العدالة ويقلل الفساد ويزيد من كفاءة الأداء.
ثانيًا: لماذا يرفض البعض المؤسسية؟
الجواب ببساطة: لأنهم مستفيدون من غيابها.
1.أصحاب الواسطة: من حصل على منصب أو فرصة بفضل قرابة أو دعم سياسي، لا يريد أن يخضع لمعيار الجدارة.
2.الشللية الوظيفية: مجموعات مغلقة داخل المؤسسات تستأثر بالقرارات والامتيازات، تخشى أن تفقد سطوتها إذا ما فُرضت قواعد شفافة للجميع.
3.الفوضويون إداريًا: من اعتاد إدارة العمل بعشوائية وتجاهل للأنظمة، يجد في النظام تهديدًا لطريقة عمله المتسيبة.
4.المنتفعون من الفساد: ممن يعيشون على ثغرات النظام، من “سماسرة” المناقصات والتوظيف والعقود، يزدهرون في بيئة رمادية، ويخسرون حين تُضاء الأركان بالقانون.
ثالثًا: ما بين العدالة والامتياز
العمل المؤسسي لا يُساوي الجميع في النتائج، بل في الفرص. وهذه نقطة جوهرية.
•لا يهم من أنت، بل ما الذي تستطيع فعله.
•لا يهم من تعرف، بل ما الذي أنجزته.
•لا يهم تاريخك الاجتماعي، بل مؤهلاتك ومهاراتك.
هذا التحول يضرب في الصميم الامتيازات التقليدية المبنية على العائلة، القبيلة، الانتماء السياسي أو الطائفي. ولهذا يراه البعض خصمًا لا شريكًا.
رابعًا: مقاومة التغيير… أشكالها وأدواتها
حين يبدأ تطبيق العمل المؤسسي، تظهر مقاومة على عدة مستويات:
1.تثبيط معنوي: التشكيك في جدوى العمل المؤسسي، والقول بأنه “لا يصلح لنا”.
2.تعطيل إداري: استخدام النفوذ لتعطيل القرارات أو إفراغها من مضمونها.
3.تشويه إعلامي: اتهام القائمين على الإصلاح بالمثالية الزائدة أو حتى بالفشل.
4.اختراق النظام من الداخل: تحوير الأنظمة لخدمة المصالح نفسها ولكن بلباس مؤسسي.
خامسًا: المجتمع كمستفيد… والمطلوب منه
رغم أن مقاومة الإصلاح تأتي غالبًا من داخل المؤسسات، إلا أن المجتمع هو الخاسر الأكبر من غياب المؤسسية، ولذلك عليه أن يكون طرفًا فاعلًا في دعمها.
•المجتمع المدني يجب أن يراقب ويدعم الحوكمة الرشيدة.
•الإعلام المسؤول يجب أن يُظهر قصص النجاح المؤسسي بدلًا من التضخيم الانتقائي للفشل.
•المواطن الفرد يجب أن يرفض الواسطة والمحسوبية، ولو كانت لصالحه.
سادسًا: الإصلاح المؤسسي لا يُكمل بلا إرادة سياسية
التحول إلى العمل المؤسسي ليس قرارًا إداريًا فقط، بل قرار سياسي شجاع. فكلما كانت القيادة واعية بخطورة استمرار الفوضى، كلما دفعت بشكل أقوى نحو بيئة تحترم القانون وتقدّر الكفاءة.
لكن ذلك يتطلب:
•إعادة هيكلة المؤسسات جذريًا
•تحديث اللوائح والقوانين
•محاسبة المخالفين ولو كانوا “كبارًا”
•بناء ثقافة إدارية جديدة من خلال التعليم والتدريب
العمل المؤسسي لا يُرضي الجميع، لأنه ببساطة لا يُجامل أحدًا. هو لا يرفع صوتًا على آخر، بل يرفع القاعدة فوق الجميع. ومن اعتاد الصعود على أكتاف الآخرين، سيرى في هذا التوازن خطرًا. لكن المجتمعات لا تتقدم بتوازنات هشة، بل بمبادئ راسخة. وإذا أردنا مستقبلًا تسوده العدالة والإنتاجية، فعلينا أن نحتمل ضجيج الخاسرين، لأن المكاسب الحقيقية لا تأتي إلا من باب الإصلاح
اترك تعليقاً