1. مقالات
  2. الغزو.. وضياع الأرشيف الوطني

الغزو.. وضياع الأرشيف الوطني

IMG 2770

بقلم: عبدالله بشارة – القبس

لا يستغني كاتب المقالات ولا مؤلف الكتب ولا الباحث عن دعم الأرشيف بالحقائق التي يريدها، والتي توفر له قاعدة الانطلاق في كشف المجهول من وقائع التاريخ التي دونت مسار الشعوب ورسمت هويتها بالتدوين الصادق للاحداث. فمن دون هذا السجل الذي يشكل المخزون المدون لحياة كل أمة وما مرت به من انشراح ومن ضيق، من مباهج الانتصار ومن احزان الانكسار، وكلما اتسعت خزينة الأرشيف زادت جاذبيته وارتفعت سمعته في توفير ما يريده كتّاب التاريخ وأصحاب المؤلفات المتنوعة، فالأرشيف مخزن الذاكرة المحافظ لما مرت به كل أمة، ليس في الممر السياسي، وإنما في جميع مسارات الحياة.

أنا واحد من الأعضاء الجدد في عالم الأرشيف، وتابعت باحثاً عمّا تركه المدونون منذ منتصف ستينيات القرن، فمن طيب حظ الكويت وجود تسجيلات حافظت على أحداث تتناول بداية عصر الشيخ مبارك الصباح ومعاركه وعلاقته مع الشعب، خاصة التجار ودورهم في تأمين هذه المعارك، وجاء معظمها من سجلات الارشيف البريطاني المتابع لما يدور في الكويت، وبوحي منها جاء الاقتناع بضرورة التسجيل لما يحدث داخل الكويت مع التطرق الى علاقاتها مع دول الاقليم وخارجه. ومع مرور الزمن تضخمت الملفات، خاصة مع تولي الشيخ أحمد الجابر الحكم عام 1921 ميلادي، ومهما كانت البساطة في ترتيب الأحداث، فالأهم أن الباحث يجد مادة تختزن أبرز الوقائع التي دخلت تاريخ الكويت، وبفضلها نقرأ ما تمت كتابته حول العلاقات الكويتية – العراقية، ونتعرف على جهود الزعامات العراقية في تفسيرها الواسع لخريطة الحدود بين البلدين الموثقة منذ عام 1932، ونقرأ عن مساعي رئيس وزراء العراق نوري السعيد في محاولاته لضم الكويت للاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن واجتماعاته مع الشيخ عبدالله السالم، كما كتبتها أحداث عام 1958. ومع الصلابة في رفض تلك المساعي، ظلت الحدود كما رسمتها وثائق 1932، لكنها لم تتخلص من جهود التبديل والتغيير التي تسعى لها حكومات العراق، الذي شهد تبدلات في الحكم، آخرها وصول صدام حسين الى الحكم وتسلطه على العراق بالدم والارهاب، ويلتفت الى الكويت مقدماً لها خريطة رسمها نظامه، مردداً بأن هذه المبادرة هي تقدير كبير للمساندة الكويتية الصلبة في دعم العراق في حربه مع إيران.

شهدت زيارة المرحوم الشيخ صباح الأحمد الى بغداد في فبراير 1990 تفاصيل تلك المهزلة، حيث التقى مع الوزير سعدون حمادي، الذي قدم له الخريطة الجديدة للحدود بين البلدين، ورافق هذا التقديم الاشادة بالدعم الكويتي لصمود العراق خلال حربة مع إيران، ويسجل بأنه تمشياً مع الدعم وتقديراً لهذا الموقف الشجاع فإن العراق يمتثل لطلب الكويت ترسيم الحدود ويعرض هذه الخريطة أملاً في قبولها.

ومن الطبيعي أن تستولي الدهشة على الشيخ صباح الأحمد، الذي تسيده الغضب، ولم ير مبرراً للاستمرار في تلك الزيارة، واعداً بإرسال الرد الكويتي على هذا العرض فيما بعد.

في شهر أبريل 1990، ذهب السيد سليمان الشاهين وكيل وزارة الخارجية، حاملاً الرد الكويتي برفض الخريطة العراقية مع الاصرار على تأكيد فاعلية الحدود المتفق عليها منذ عام 1932، وهي الحدود التي أكدها العراق عام 1932، عند انضمامه لعصبة الأمم League of Nations، لأن سلامة الحدود بين الدول هي شرط أساسي للالتحاق بعصبة الأمم. والتقى المبعوث الكويتي سليمان الشاهين بالوزير سعدون حمادي، ناقلاً له الرد الكويتي، كان ذلك في أبريل 1990. ولا شك بأن ذلك اللقاء أوحى للرئيس صدام حسين بضرورة الحد من الصلابة الكويتية التي ترفض هيمنته وأطماعه نحو الكويت، باحثاً عن السيناريو الذي يخيف الكويت، ويحقق أهدافه ليتعاظم مقامه، خليجياً وعربياً، وربما عالمياً، ليلتحق بلائحة العمالقة في تاريخ البشرية. ومن هذا الوضع خرجت المذكرة العراقية الى الجامعة العربية في يوليو 1990، واعقبها غزو صدام حسين للكويت، متحدياً العالم كله، بما فيه من قيم ومصالح وقوانين، وأبرزها ميثاق الأمم المتحدة والأمن العالمي.

قرأت خريطة صدام حسين التي قدمها سعدون حمادي للشيخ صباح الأحمد، متعجباً من الجرأة الوقحة التي تنقل أطماع صدام حسين في ضم جزر الشمال الكويتية وفيلكا والساحل الكويتي وطريق يبدأ من البصرة الى ميناء الشعيبة وكل ذلك تحت السيادة العراقية، مع أولويات للعمالة العراقية، ووجود تسهيلات في كل مسار، بما فيها قواعد بحرية واستثمارات كويتية داخل العراق، والحقيقة أنها عملية استخفاف بالدولة الكويتية وشعبها وحكامها وهويتها، وإهانة أيضاً لأصدقائها من عرب ومن مختلف بقع العالم. تحتوي المذكرة على أكبر من اطماع جغرافية، فهي إهانة وتحد لكل أهل الكويت وأصدقائها من عرب ومن غيرهم، متجاهلاً الترابط الكويتي العربي والعالمي، ومستخفاً بعلاقاتها مع دول العالم، لا سيما الدول الدائمة في مجلس الأمن، ومقزماً مقام الكويت بين الأمم. كنت مع الوفد الكويتي في محادثات جدة، ممثلاً لمجلس التعاون، وموحياً للعراق بتعاضد خليجي جامع مع الكويت، وعدت الى الكويت في طائرة الوفد الكويتي برئاسة المرحوم الشيخ سعد، والتحق ليلاً بوزارة الدفاع الكويتية مع بدأ الغزو، ونعبر الحدود الى المملكة العربية السعودية، ومنها الى الأمانة العامة في الرياض، واتصل بالديوان الملكي للتشاور مع خادم الحرمين، الذي أخبرني بأن مبعوث صدام، وهو نائبه، سيصل الرياض في اليوم التالي، منتظراً ما يحمل. والخلاصة التي توصلت لها من هذه الكارثة بأن الغزو سيتم اذا رفضت الكويت الخريطة التي يريد رسمها للعلاقات بين البلدين، وفي الحالتين ستكون ملحقاً لنظام صدام ولن تفلت منه، كان مقتنعاً بهذا السناريو.

نقلًا عن القبس

اترك تعليقاً

رجوع إلى الأعلى