بريطانيا.. حين يُعاد رسم وجه الوطن بصمتٍ وكرامة

بقلم: الباحث الاقتصادي السوري المقيم في لندن يوسف حسن
في زوايا الخريطة، هناك بلدان لا تكتفي بأن تكون محطات عبور أو منفى مؤقت، بل تتحوّل إلى أحلام قابلة للتحقق. بريطانيا، تلك الجزيرة التي جمعت بين نبض الحداثة وعراقة الإمبراطورية، أصبحت أكثر من مجرد دولة؛ إنها ملاذ، ووجهة، وفضاء يحمل في قلبه احتمال حياة أكثر عدلاً وكرامة.
الهجرة إلى بريطانيا ليست عبورًا جغرافيًا فحسب، بل فعل إرادة. إنها مغامرة إنسانية نحو فضاء يُحترم فيه الحلم، ويُصان فيه الإنسان. وعلى خلاف الصورة النمطية للمهاجر كطارق باب أو طالب حماية، فإن مهاجري بريطانيا الجدد باتوا شركاء حقيقيين في صناعة المجتمع والاقتصاد، وفي إعادة تعريف الهوية الوطنية نفسها.
حين نتابع أداء الاقتصاد البريطاني، ندرك بسرعة أن المهاجرين ليسوا عبئًا كما تدّعي بعض الأصوات، بل هم رافعة محورية للقطاعات الحيوية. فالمستشفيات البريطانية، مثلًا، تقف على أكتاف آلاف الأطباء والممرضين من أصول آسيوية وأفريقية. في النقل والبناء والرعاية والضيافة، يبرز حضورهم كقوة عاملة فعالة.
بل إن مساهماتهم لم تقتصر على العمل اليدوي أو المهني، بل طالت الابتكار والبحث العلمي والتعليم العالي. الأكاديميون والمهندسون والمبرمجون من خلفيات مهاجرة أصبحوا جزءًا أصيلاً من منظومة المعرفة البريطانية.
اللافت أن كثيرًا من المهاجرين لم ينتظروا أن يُدمَجوا، بل اختاروا أن يصنعوا فرصهم. مشاريع صغيرة، من مطاعم إلى متاجر إلى شركات تقنية ناشئة، انتشرت في أحياء المدن البريطانية، لا سيما في لندن ومانشستر وبرمنغهام. هؤلاء لم يكتفوا بالاندماج، بل ضخّوا روحًا جديدة في الشوارع والأسواق، وصنعوا شبكات دعم واقتصادًا موازٍ عزز من صمودهم واستقلالهم.
المناخ الاقتصادي الداعم، والتشريعات المرنة، كانت عوامل مساعدة. لكن ما لا يجب تجاهله هو الإرادة العنيدة التي حملها هؤلاء، والقيم التي جلبوها معهم: العمل، العائلة، التعليم، والتماسك.
التعليم والبحث
لم يكن التعليم البريطاني أقل جذبًا. فالجامعات العريقة مثل أوكسفورد وكامبريدج، لا تزال حلمًا يداعب عقول آلاف الطلاب من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. لكنها لا تمنح الشهادات فقط، بل تمنح كذلك الفرصة للمهاجر كي يصبح جزءًا من شبكة النخبة العلمية والبحثية في العالم.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى ما تقدمه بريطانيا من بيئة علمية متقدمة، ودعم للباحثين، ومختبرات تحتضن العقول، بغض النظر عن لون جواز سفرها أو لهجتها الأم.
أن تتمكّن من علاج ابنك في مستشفى عام دون أن تُسأل عن دخلك، أو أن تضمن لمسنّ في أسرتك رعاية دون بيروقراطية مذلّة، هذه ليست رفاهية. إنها كرامة. وبريطانيا، رغم كل ما تعانيه من ضغوط على نظامها الصحي، لا تزال تُعدّ من الدول القليلة التي تمنح هذه الكرامة مجانًا، وللجميع.
ولأن العدالة جزء من المعادلة، فإن النظام القضائي البريطاني، برصانته واستقلاليته، يمنح المواطن والمهاجر على السواء شعورًا بالأمان. إنه الإطار الذي يُصان فيه الحق دون الحاجة إلى وساطة أو تمييز.
التنوع الثقافي
لندن، بهويتها الفريدة، تجسّد ما يمكن أن يكون عليه العالم حين يُترك له أن يتنفس بحرية. الأزياء، اللهجات، الطعام، المهرجانات، الكتب، كلّها شواهد على اندماج لم يُفرض من الأعلى، بل تبلور من القاعدة، من الشارع، من الجامعات، من الفن.
في هذه الفسيفساء، لا يذوب المهاجر، بل يُعاد تشكيله: يحتفظ بجذوره، ويغرسها في تربة جديدة. التعددية لا تقتل الهوية، بل تمنحها أفقًا أوسع. وهذه من أهم الرسائل التي يحملها النموذج البريطاني في زمن تصاعد العنصرية والانغلاق القومي.
بالتأكيد، ليست الصورة وردية بالكامل. لا تزال هناك فجوات في سياسات الدمج، وتمييز في فرص التوظيف، وحملات إعلامية تستثمر في التخويف من “الآخر”. لكن الأهم هو أن بريطانيا لا تنكر وجود هذه الإشكاليات، بل تناقشها بصراحة، وتحاول إصلاحها عبر القانون والسياسة والمجتمع المدني.
الخلاصة
المهاجر في بريطانيا اليوم لم يعد “قادمًا” فحسب، بل فاعلاً في صياغة يومها وغدها. لم يعد مجرد “ضيف”، بل شريك في إعادة رسم ملامح الوطن. وفي ظل هذا الحضور المتنامي، يبدو أن التحدي الأكبر لم يعد في “استقبال الغرباء”، بل في إدراك أن هؤلاء الغرباء باتوا، بمرور الوقت، جزءًا من الذات.
التنوع ليس خطرًا. هو مورد. وفهم هذا المورد وتوظيفه هو ما يصنع الفرق بين أمة تتراجع، وأخرى تتجدّد.
اترك تعليقاً