جيل الوفرة… بين الدلع وفقدان المهارات

بقلم : د. عيسى فلاح العازمي
لم تكن حياة آبائنا وأمهاتنا سهلة، لكنها صنعت منهم رجالًا ونساءً يعرفون كيف يعيشون ويواجهون التحديات. أما اليوم، فقد جاءت الوفرة المالية، والتمدن، والحضارة الحديثة، لتمنح أبناءنا كل شيء جاهزًا على طبق من ذهب، وبالمقابل سلبتهم الكثير من مهارات الحياة الأساسية.
أصبحنا نرى شابًا في العشرين من عمره، لا يعرف مراجعة دائرة حكومية أو إصلاح سيارته، وكأن هذه مهام معقدة لا تصلح إلا للكبار. الأب هو من يقوم بها كاملة، بينما الابن لا يُترك حرًا إلا إذا ذهب إلى السينما أو جلس على ألعاب الفيديو. وإذا قارنّا، نجد أن شاب اليوم في عمر 25 يكاد يوازي عقلية شاب عمره 13 قبل ثلاثين عامًا.
والفتيات لسن أفضل حالًا؛ كثير منهن لا يعرفن أبسط فنون الحديث مع النساء، ولا دخول المطبخ، ولا تدبير شؤون البيت، وكأن الحياة تقتصر على طلبات جاهزة، ومكياج، وصور في وسائل التواصل الاجتماعي. بينما كانت فتاة الأمس في العشرين قادرة على إدارة بيت كامل، وربما ربت أجيالًا.
إن المشكلة ليست في الوفرة وحدها، بل في الدلع المفرط، وفي أسلوب تربية يجنّب الأبناء التعب والمواجهة، في حين أن الحياة لا تعترف إلا بمن يواجه ويتحمل المسؤولية. إذا أردنا جيلًا قويًا، فلا بد من إعادة أبنائنا إلى ميادين التجربة، وتحميلهم أعباءً صغيرة تكبر معهم، حتى لا نصحو يومًا ونكتشف أننا صنعنا جيلًا مترفًا… لكن عاجزًا.
ولأن التربية الحقيقية لا تقتصر على الإطعام والكساء، بل هي صناعة إنسان قادر على الحياة، فإن واجب الأسرة أن تغرس في الأبناء منذ الصغر قيم الاعتماد على النفس، وتحمل المسؤولية، وحل المشكلات. فالطفل الذي يُكلف بمهام بسيطة وينجح فيها، ينمو لديه الإحساس بالإنجاز والثقة بالنفس، أما من يعيش في ظل حماية مفرطة ودلع دائم، فسوف يخرج إلى الحياة ضعيف الحيلة، لا يعرف من أين يبدأ. التربية الناجحة توازن بين الحب والحزم، وبين الرعاية والتكليف، لتصنع جيلًا يليق بمواجهة تحديات الغد.
وقد قدّم لنا رسول الله ﷺ أرقى نموذج في إعداد الأبناء للمسؤولية، فكان يُعلّم الصغار ويكلّفهم بما يناسب قدراتهم، ويغرس فيهم الثقة والاعتماد على النفس. فقد كان أسامة بن زيد يقود جيشًا وفيه كبار الصحابة وهو لم يبلغ العشرين، وكان ابن عباس يخدم النبي ويتعلّم منه العلم والحكمة وهو غلام. هذا النهج النبوي يعلّمنا أن التربية ليست بتأخير المسؤوليات عن أبنائنا، بل بإعدادهم مبكرًا لها، حتى يكبروا وهم أهلٌ لها
اترك تعليقاً