القوة في عصر الذكاء الاصطناعي

بقلم: د. فاتن الدوسرى
في عصر الذكاء الاصطناعي ستتغير ملامح السياسة والعلاقات الدولية المعتادة بصورة جذرية، كحال كل المجالات الأخرى. فالذكاء الاصطناعي سيتداخل في كل مفردات ومجالات السياسة الدولية: الدبلوماسية، الصراعات، القوة العسكرية، التعاون الدولي، الأمن القومي، الرأى العام…إلخ.
وتعد القوة بطبيعة الحال من أهم المناحي المتأثرة بصورة جذرية سلبا وإيجابًا من الذكاء الاصطناعي، القوة من المفاهيم القائدة في العلاقات الدولية، فهى المحدد الرئيس للمصالح والسياسة الخارجية والتوازن ونمط النظام الدولي والترتيب الهرمي للدول فيه.
يعد الملح الذى بات لا خلاف عليه هو قدرة الذكاء الاصطناعي الخطيرة على إعادة تشكيل توزيع وأنماط وتفاعلات القوة في النظام الدولى، وتوازن القوى كذلك، إذ بات يتداول مصطلح جديد في العلاقات الدولية وهو (الجيوتكنولوجى) باعتباره الجيل الثالث بعد اندثار الجيلين الأول والثاني الجيوسياسى والجيواقتصادى.
والمصطلح من إسمه يلخص سردية القوة برمتها في زمن الذكاء الاصطناعي، إذ باتت القدرة على فرض النفوذ والمناورة والضغط وتحقيق الأهداف والأولويات الخارجية وصيانة الأمن القومي ومواجهة التهديدات تقوم كلية على مقدار قوتك التكنولوجية وفي قلبها الذكاء الاصطناعي، وليس قوتك السياسية والعسكرية، والاقتصادية.
وأحد أسباب ذلك هو تداخل التكنولوجيا الجبري في كل مجالات القوة الأخرى، فتطور القوة العسكرية-مثلا- غدى يستند على القوة التكنولوجية، وصيانة وحماية الأمن القومي بات يرتبط بما لدى الدولة من تكنولوجيا فائقة تعتمد على الذكاء الاصطناعي للتصدى السريع والأمن للهجمات السيبرانية المتطورة، وإجراء تحليلات إحصائية سريعة ودقيقة لمصادر التهديد الخارجية بما في ذلك الشائعات والحروب النفسية.. وغيرها.
وإزاء ذلك، يمكن القول أن الترتيبية الهرمية التقليدية لتوازن القوى ستندثر بلا رجعة في زمن الذكاء الاصطناعي، إذ سيكون هناك نظام دولى جديد في طور التشكيل الآن، في قمته الدول الرائدة تكنولوجيًا بصرف النظر عن قدراتها العسكرية والاقتصادية.
إذ من المفارقات المتوقعة أن قد تكون في قمة هذا النظام دول صغيرة بالمعنى الواقعي أي المحدودة جغرافيا وسكانيًا وعسكريا، أو غير القادرة على الدفاع عن نفسها، ودول الخليج مرشحة بقوة على خلفية المليارات المخصصة للذكاء الاصطناعي.
لأنك عندما تمتلك ريادة تكنولوجيا كبيرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، ستتحول إلى شريك رئيس تعتمد عليه الكثير من الدول بصفة أساسية حتى الأقوى منك عسكريا واقتصاديًا لأنك ستمدهم بأحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي المندرجة في كل شيء من معالجة البيانات حتى التطور العسكرى، وهذا سيعظم نفوذك الدولي، وقوتك السياسية، وتأثيرك في القرارات والقضايا الدولية، بالإضافة إلى شبكة حلفائك وداعميك.
الذكاء الاصطناعي سيغير كل مجالات الحياة إذ حرفيا سيخلق عالم جديد تمامًا، وهذا بدوره سيغير أو يحول نمط التعاون والصراعات بصورة جذرية، إذ من ضمن أنماط الصراعات التى ستسود والتي بدأت بالفعل في التسيد هو الحروب السيبرانية أو حروب الفضاء الإلكتروني.
وفي خضم ذلك، غدت القوة لها مرادف واحد فقط وهو التكنولوجيا، وبالتالي لم تعد القوة حصرًا على القوى الكبرى فقط، بل سيعاد توزيعها باستمرار. إذ حتى الفواعل من غير الدول (الشركات متعددة الجنسيات، والتنظيمات المسلحة.. وغيرها) ستمتلك نصيبا من القوة يفوق الدول الكبرى، تستطيع من خلاله التأثير على سياسات وقرارات الدول، بل حتى على القضايا الكبرى في العالم.
وهذا بالضرورة يدفعنا للتأكيد على أن صراعات المستقبل القريب لاسيما بين القوى العظمى ستدور في معظمها حول القوة التكنولوجيا وأدواتها خاصة المعادن النادرة. إذ إن التكنولوجيا باتت كامنة في معظم الصراعات الدولية اليوم..
فالصراع على تايوان بات أكثر سخونة بين واشنطن وبكين بسبب أشباه الموصلات، والصراع على أوكرانيا قد اتخذ مسارًا آخر قد ينهيه أو يعقده على خلفية مليارات المعادن النادرة في بطن أوكرانيا، وبدأت القوى الكبرى في منافسة مستعمرة على النفوذ في أفريقيا وفي الخلفية معادن أفريقيا النادرة.
والحرب الباردة المستعمرة بين واشنطن وبكين باتت التكنولوجيا أخطر دوائرها، فالحرب التكنولوجية التى دشنها وبدأها ترامب، استمر بايدن فيها بصورة أكثر ضراوة، لأن امتلاك الهيمنة التكنولوجية بات المحدد الأساسى للهيمنة العالمية.
اترك تعليقاً